فلسطين

تسهيل الهجرة ودعم الاقتصاد: أشكال التقارب بين النازية والصهيونية

رغم ترويجهم سنوات طويلة للمظلومية التي تعرضوا لها إبان حكم النازيين، لكن كيف تدين دولة اليهود بقيامها إلى هتلر ورفاقه والسياسات النازية المعادية لها؟

future الصهيونية والنازية

روَّجت الكتابات اليهودية لسنوات مدى المظلومية التي تعرضوا لها إبان حكم النازيين في ألمانيا، وتلقفت منهم الجماعات الصهيونية ذلك الخيط؛ لترويج ادعاءات هدفها تمرير حلم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكن أغفلت تلك الكتابات حجم التعاون والدعم الذي تلقته تلك الحركات من هتلر ورفاقه بصورة مقصودة أو غير مقصودة، ما ساهم مستقبلًا بشكل مباشر في انبثاق دولة إسرائيل المستمرة إلى اليوم.

أكد ذلك ما كتبه المؤرخ اليهودي جيرشون شافير في «موسوعة الهجرة العالمية»، فعلى الرغم من وعد بلفور وجميع التسهيلات التي قدمها الانتداب البريطاني لليهود من أجل استيطان أرض فلسطين، لم يحدث إجماع يهودي على الهجرة إلى فلسطين قبل حكم النازيين، حيث لم تشكِّل فلسطين وجهة مختارة سوى لـ30٪ من المهاجرين اليهود حتى عام 1933.

لكن تغييرًا واضحًا تكشفه الأرقام وقع بعد وصول النازيين لحكم ألمانيا؛ إذ ارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى 600 ألف من أوروبا بين عامي 1933-1936، وذلك بعد أن وضع النظام النازي أطروحة «الحل النهائي» الخاصة بالتخلص من اليهود في ألمانيا، سواء بالقتل أو التهجير، وبدءُوا بالتعاون مع الجمعيات الصهيونية في تنفيذ مخطط تهجير اليهود إلى فلسطين، مع استئصال الجمعيات اليهودية التي عارضت ذلك الاتجاه، وشجعت على إدماج اليهود في مجتمعات أوروبا.

دور ألمانيا النازية في تحريك الهجرة اليهودية لفلسطين

حتى عام 1939 كان النازيون يفضلون مغادرة المهاجرين اليهود من ألمانيا إلى فلسطين، التي كانت بالنسبة لألمانيا شرًّا أهون؛ لأن نزوح اليهود إلى الولايات المتحدة وتركيا وإيران أثار حالة تجاه تعزيز المشاعر المعادية لألمانيا في تلك الدول، أما في فلسطين، فإن اليهود يعيشون منعزلين، لا يمتد تأثيرهم إلى مجتمعات أخرى؛ لذلك تعاون البوليس السري الألماني ومصلحة الأمن مع منظمات صهيونية سرية في تنظيم الهجرة غير الشرعية للاجئين اليهود، وكسر الحصار البريطاني المفروض على الهجرة إلى فلسطين، وأسفر ذلك التعاون عن توجه 53 ألف يهودي من ألمانيا إلى فلسطين بين عامي 1933 و1939، وفقًا لأرقام الهجرة الرسمية، وقد وصل عدد اليهود الألمان إلى أكثر من نصف عدد المهاجرين اليهود الرسميين لفلسطين بحلول عام 1939.

تعززت عمليات الهجرة عبر التعاون بين ألمانيا النازية والجمعيات الصهيونية، بخروج رحلات ممولة من ألمانيا النازية صوب الأراضي الفلسطينية، وسمحت ألمانيا النازية للمنظمات الصهيونية بجمع التبرعات لدعم مشروع الهجرة لفلسطين، يقول عنها الكاتب الألماني كلادس بولكين: إن الشرطة السياسية في مقاطعة بافاريا أصدرت بيانًا في 1933 جاء فيه: «تقوم المنظمة الصهيونية بجمع النقود من أعضائها والمؤيدين لها لتشجيع الهجرة وامتلاك الأراضي في فلسطين لإقامة التجمعات السكنية، وهذه الأموال التي تُجمع لا تستلزم الحصول على تصريح خاص لها، والشرطة السياسية لا تمانع عقد اجتماعات تجميع الأموال للمساعدة على حل المسألة اليهودية».

كما تمت اتفاقية في أغسطس 1933 بين ممثلي الوكالة اليهودية من جهة، والحكومة النازية من جهة أخرى، وهذا الاتفاق أجاز لليهود الألمان النازحين إلى فلسطين دون غيرهم تحويل جزء من أرصدتهم المالية إلى فلسطين على هيئة سلع مستوردة من ألمانيا، مع تأسيس شركة تحت اسم شركة هآرفا المحدودة للإشراف على عمليات التهجير، وكان هذا الاتفاق موضع جدل كبير، حيث شكل هدمًا للمقاطعة الاقتصادية التي قام بها يهود ألمانيا للضغط على النظام النازي تجاه ممارساته القمعية على اليهود.

وعبرت الوزارات المختصة في ألمانيا عن دور ألمانيا المباشر في دعم الهجرة لفلسطين، فرأت وزارة الخارجية في كلمتها أن تيسير هجرة اليهود يخفف حدة الانتقادات الموجهة لألمانيا، ورأت وزارة الاقتصاد أن نقل أموال اليهود في صورة بضائع ألمانية يساعد في مواجهة البطالة، ويفتح سوقًا جديدًا للصادرات الألمانية، وساهمت وزارتا الزراعة والتموين في فتح منظمات تدريب جديدة لتأهيل أكبر عدد ممكن من الشباب اليهود على الأعمال المهنية والزراعية، وسمحوا للوكالة اليهودية بإرسال معلمين لتعليم الشباب اللغة العبرية.

الجماعات الصهيونية تستخدم المأساة

لم تكتفِ الجماعات الصهيونية بالتعاون مع النازيين لتمرير حلم الوطن القومي لليهود، لكنها استغلت الاضطهاد الحاصل ليهود أوروبا من أجل الحصول على تعاطف الرأي العام العالمي، باستخدام فلسفة الكارثة المفيدة التي أشار لها شابتاي تيفيث، كاتب سيرة ديفيد بن جوريون، رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية وأهم المؤسسين لدولة إسرائيل، وينقل عنه قوله: «كلما كانت المصيبة أقسى صارت قوة الصهيونية أعظم».

 ويرى تيفيث أن هذه الفلسفة تفسر لا مبالاة بن جوريون النسبية بالهولوكوست، وهي لا مبالاة تعرَّض بموجبها للنقد، وذلك حين قال في عام 1937: «لو كنت أعرف أن بالإمكان إنقاذ جميع الأطفال في ألمانيا بنقلهم إلى إنجلترا، بينما لا يمكن إنقاذ غير نصفهم بنقلهم إلى فلسطين، لاخترت الخيار الثاني؛ لأننا نواجه ليس فقط حساب هؤلاء الأطفال، وإنما الحساب التاريخي للشعب اليهودي».

كما كان لبن جوريون تعليق عقب مذابح ليلة الكريستال التي حدثت في نوفمبر 1938: «الضمير الإنساني قد يدفع مختلف البلدان لفتح أبوابها أمام اللاجئين اليهود من ألمانيا، ما يعد إنذارًا شديد الخطر على مستقبل الصهيونية».

وسارت الحركات الصهيونية في أمريكا على النهج نفسه، حيث قرروا أن مهمتهم الأولى تتمثل في دعم إقامة فورية لدولة يهودية في فلسطين، مع اعتقاد الصهاينة في أمريكا أن افتقار اليهود إلى وطن يجمعهم هو السبب الأساسي لأشكال العنف ضدهم؛ لذا قرروا وضع حد نهائي لتشتت اليهود بين دول العالم، مقابل ذلك الهدف غضوا الطرف عن العنف تجاه اليهود في ألمانيا، حتى إن الكاتب ديفيد ويمان لخص تحركات تلك المنظمات بقوله:

إن قيادة الصهيونية الأمريكية ركزت، خلال المحرقة، قوتها الرئيسة على الحملة من أجل إقامة دولة يهودية قادمة في فلسطين، وقد وضعت الإنقاذ في موقع ثانوي بشكل لا لبس فيه.

في طرف آخر ناضلت جماعات يهودية معارضة لمبدأ تفضيل موت اليهود على نشوء دولة تجمعهم في فلسطين، وظهرت منهم فكرة مشروع لإعادة تجميع اليهود في أرض أنسب للهدف من فلسطين، وحبذا لو كانت في الولايات المتحدة.

لكن خيب أمانيهم المؤتمر الدولي الذي عُقد في فرنسا، في يوليو 1938، الذي دعا إليه فرانكلين روزفلت، للنظر في مصير اللاجئين اليهود من ألمانيا والنمسا، والذين كان عددهم قد تزايد بصورة ملحوظة، نتيجة لضم النمسا إلى ألمانيا، وقد أرسل اثنان وثلاثون بلدًا ممثلين لهم، اعتذر مندوب بعد آخر منهم عن عدم استعداد بلاده لقبول المزيد من اللاجئين.

الدول الغربية تصدق على قرار الاستيطان

حاولت الحركات الصهيونية استغلال موجات التعاطف التي تلت تحرير نزلاء معسكرات الاعتقال النازية عام 1945، وحولت دفة الدبلوماسية الصهيونية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، مع انتشار أخبار المحرقة النازية على المستوى العالمي بعد الحرب، أسست أخبار المحرقة طريقة تمكنت منها الدبلوماسية الصهيونية أن تعبئ الحكومات والرأي العام الدولي وصولًا إلى الهدف السياسي الرئيس لها، وهو إقامة دولة يهودية في فلسطين.

فمع حلول عام 1947 كان في أوروبا جمهور من الناجين من معسكرات الاعتقال ومشروع ألمانيا الإبادي، كانوا قد وصلوا إلى حالة بؤس وشقاء عميق، وكان قرار تأسيس دولة إسرائيل هو الأسلوب الذي حلت به أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفييتي المشكلة المتمثلة في هذا الحشد من التعساء، الذين لم يرغب الأمريكيون ولا الأوروبيون في استقبالهم، في حين أن السلطات السوفييتية شجعت الهجرة اليهودية غير الشرعية إلى فلسطين من بلدان شرق ووسط أوروبا الواقعة تحت سيطرتها.

وطلبت واشنطن من لندن فتح أبواب الهجرة الشرعية لليهود إلى فلسطين، التي كانت لا تزال تحت الانتداب البريطاني، ففي عام 1946، حث الرئيس الأمريكي هاري ترومان الحكومة البريطانية على التخفيف من معاناة اليهود الموجودين في مخيمات المشردين في أوروبا، بأن تقبل فورًا دخول مائة ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين. ليصله رد ساخر من إرنست بيفن، وزير خارجية بريطانيا، قال فيه:

إن الولايات المتحدة تريد لليهود المشردين أن يهاجروا إلى فلسطين؛ لأنها لا تريد كثيرين منهم في نيويورك.

وهكذا فإن دولة اليهود تدين بقيامها إلى السياسات النازية المعادية لهم، بداية من الطفرة المفاجئة التي سببتها تلك السياسات في هجرة اليهود لفلسطين، فضلًا على ذلك كان نشاط الحركة الصهيونية أساسًا ردة فعل على تلك السياسات النازية، وأخيرًا تسببت السياسات النازية في زيادة الانتماء القومي لليهود المهاجرين لدولتهم الجديدة في إسرائيل، حتى إن الناجين من الهولوكوست شكَّلوا، استنادًا إلى تقديرات جدية، نحو ثلث القوات الصهيونية التي شاركت بصورة مباشرة في القتال في حرب 1948.

لذلك أنهي تلك المادة بوصف قاله إميل لودفيج، كاتب السير الشعبية اليهودي، معبرًا عن الموقف العام للحركة الصهيونية تجاه هتلر:

سيطوي النسيان هتلر في سنين قليلة، لكن سيقام له تمثال في فلسطين.

# الصهيونية # النازية # فلسطين # إسرائيل

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟

فلسطين